السبت، 22 مايو 2010

مدخل الى القضية الفلسطينية

مدخل الى القضية الفلسطينية



لا يمكن التعامل مع الصراع الدائر فوق ارض فلسطين المحتلة كصراع نموذجي من الصراعات البشرية العادية، كما لا يمكن اعتبار هذا الصراع امتداداً لصراعات لم تتوقف بين القوى المختلفة للسيطرة على أرض فلسطين لأسباب اقتصادية أو عسكرية أو حتى دينية .

فالصراع الذي تحياه الأمة - بدرجات متفاوتة - مع العدو الصهيوني يشكل صراعاً تتداخل فيه الظروف التاريخية والسياسية وعوامل الاقتصاد والدين وحتى الرؤية الحضارية للمنطقة العربية والإسلامية ودورها في موكب الحضارة الإنسانية .

ويكفي استعراض المراحل التاريخية التي مرت بها القضية الفلسطينية لتوضيح هذه الحقيقة فبينما كان التنافس الإستعماري الاوروبي يشتد في نهاية القرن الثامن عشر لوراثة الإمبراطورية العثمانية، والسيطرة على طريق الهند الإستراتيجي، ويشكل عاملاً أساسياً لرسم سياسات الدول الأوروبية، حاول الحركيون اليهود - بدعم أوروبي شاركت فيه آنذاك ألمانيا وبريطانيا - الضغط على الخلافة العثمانية لانتزاع ميثاق من السلطان عبد الحميد الثاني يمنح اليهود حق الإستيطان في فلسطين والسماح بهجرتهم إليها، غير أن السلطان العثماني رفض الضغوط الأوروبية وإغراءات اليهود .

وفي الفترة بين عامي 1900- 1901 أصدر السلطان عبد الحميد بلاغاً يمنع المسافرين اليهود من الإقامة في فلسطين لأكثر من ثلاثة أشهر، كما أمر بمنع اليهود من شراء أي أرض في فلسطين، خشية أن تتحول هذه الأراضي إلى قاعدة لهم تمكنهم من سلخ فلسطين عن بقية الجسد المسلم .

وفي عام 1902 تقدم اليهود بعرض مغر للسلطان عبد الحميد يتعهد بموجبه أثرياء اليهود بوفاء جميع ديون الدولة العثمانية وبناء أسطول لحمايتها، وتقديم قرض بـ(35) مليون ليرة ذهبية لخزينة الدولة العثمانية المنهكة، إلا أن السلطان رفض العروض وكان رده كما جاء في مذكرات ثيودور هرتزل: (انصحوا الدكتور هرتزل ألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، لأني لا استطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الارض، فهي ليست ملك يميني بل ملك شعبي، لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الارض ورواها بدمائه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت امبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الامبراطورية الاسلامية، وهذا أمر لا يكون، فأنا لا استطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة .. ) .

وعندما أيقن اليهود بفشل جميع المحاولات الممكنة بدأوا بالعمل على إسقاط الخلافة العثمانية، حيث استطاعوا التسرب عن طريق طائفة يهود الدونمة التي تظاهر أفرادها بالإسلام وحملوا الأسماء التركية، ودخلوا في جميعة "الاتحاد والترقي" ووصلوا الى الحكم سنة 1907، وتصاعد النشاط الصهيوني في فلسطين بدعم من أنصار الاتحاد والترقي ويهود الدونمة الذين سيطروا على مقاليد السلطة في الاستانة حيث سمح الحاكم العثماني الجديد لليهود بالهجرة إلى فلسطين وشراء الأراضي فيها، مما فتح أمام المنظمات الصهيونية للبدء بالنشاط العملي على نطاق واسع حتى سقطت الخلافة رسمياً سنة ( 1924) واحتلت الجيوش البريطانية فلسطين ।

لقد التقت المصالح الاستعمارية الاوروبية في انتزاع فلسطين من الوطن العربي مع المصالح الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود، بل إن قادة أوروبا هم الذين عرضوا على اليهود إقامة وطن لهم في فلسطين، قبل أن تطرح الحركة الصهيونية الفكرة بسنوات طويلة، وعلى الأخص من جانب فرنسا وبريطانيا في محاولة للتخلص من المشكلة اليهودية في أوروبا وتحقيق مكاسب استعمارية من الدولة اليهودية .

كان التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا واضحاً في الشرق الأوسط، حتى قبل قيام الحركة الصهيونية، وكان هدف كل منهما حماية مصالحه في المنطقة، وملاحقة الدولة الأخرى من إجل إيذائها أو منافستها على تلك المصالح، وإيجاد الوسائل المختلفة التي تحمي مصالحها واعتقدت بريطانيا بعد فشل نابليون بونابرت في مصر وبلاد الشام، أنه من المفيد إيجاد بدائل اخرى في الشرق الأوسط، لاستمرار تفوقها على فرنسا. وقد وجدت في فلسطين مكاناً ملائماً لبسط نفوذها بسبب الموقع الجغرافي الذي تتمتع فيه وسط الوطن العربي وباعتبارها البوابة التي تربط بين أسيا وأفريقيا، ولهذا فإن من مصلحة الاستعمار الاوروبي والبريطاني بالذات، فصل الجزء الاسيوي عن الجزء الأفريقي من الوطن العربي، وخلق ظروف لا تسمح بتحقيق الوحدة بين الجزءين في المستقبل .

بدأ الموقف البريطاني يتضح بعد حملة محمد علي باشا والي مصر الى الشام، عندما أرسل ابنه ابراهيم باشا الى المنطقة، مما أثار بريطانيا لأنها خشيت أن تتوحد مصر مع بلاد الشام في دولة واحدة، لهذا ساهمت بريطانيا مع الدولة العثمانية في إفشال حملة ابراهيم باشا على بلاد الشام .

وبعد تدخل بريطانيا، أرسل بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا مذكرة إلى سفيره في استانبول في عام 1840، شرح فيها الفوائد التي سوف يحصل علىها السلطان العثماني من تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين وقال :« إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت حمايته يشكل سداً في وجه مخططات شريرية يعدها محمد علي أو من يخلفه » .

وفي مارس / آذار 1840 وجه البارون اليهودي روتشيليد خطاباً إلى بالمر ستون قال فيه : «إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين لأن هناك قوة جذب بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهون بإمكانيات اتصالهم واتحادهم، إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض، فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في أسيا.

وكانت فلسطين دائماً بوابة على الشرق. والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه، وإن الهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقاً للعهد القديم، ولكنها أيضاً خدمة للامبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الامبراطورية أن تتكرر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو بقيام الاتصال بين مصر والعرب الآخرين».

هاتان الوثيقتان الصادرتان عن بريطانيا وأحد زعماء اليهود، تظهران التقاء مصالح الطرفين في محاربة قيام دولة عربية موحدة، وأن ذلك لا يتم إلا من خلال إقامة دولة دخيلة لليهود في قلب المنطقة العربية ، وقد دعا تقرير بريطاني اعدته لجنة شكلها رئيس وزراء بريطانيا (هنري كمبل- بانزمان) عام 1907 إلى العمل من أجل إبقاء المنطقة العربية مجزأة ومتأخرة وإلى «محاربة اتحاد الجماهير العربية أو ارتباطها بأي نوع من أنواع الارتباط الفكري أو الروحي أو التاريخي، وذلك من خلال العمل على فصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي، عن طريق إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط آسيا وإفريقيا، بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة لنا وعدوة لسكان المنطقة » .

وهو ما أمكن تحقيقه جزئياً من خلال اتفاقية سايكس - بيكو (1916) وبموجب الاتفاقية حصلت فرنسا على أجزاء من سوريا وجنوب الأناضول وعلى منطقة الموصل في العراق ولونت باللون الازرق، وحصلت بريطانيا على أراضي جنوب سوريا إلى العراق شاملة بغداد والبصرة والمناطق الواقعة بين الخليج العربي والأراضي الممنوحة لفرنسا وميناءي عكا وحيفا ولونت باللون الأحمر ، أما بقية مناطق فلسطين فقد لونت باللون البني، واتفق على أن تكون دولية، وهكذاحقق الاستعمار البريطاني والفرنسي مؤامرته ضد قيام وحدة بين جزئي الوطن العربي .

في أعقاب الاتفاقية عمد قادة الحركة الصهيونية وعلى رأسهم اللورد روتشيلد وحاييم وايزمان لاجراء اتصالات مع بريطانيا أدت إلى إصدار وعد بلفور، وكان من الأسباب التي دفعت بريطانيا للموافقة على الوعد هو أن تكون الدولة اليهودية خط الدفاع الأول عن قناة السويس واستمرار تجزئة الوطن العربي، وقد أصدر القرار في 2 تشرين ثاني / نوفمبر 1917 وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور، ونص القرار الذي جاء على هيئة رسالة من بلفور إلى روتشيلد على أن «حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الاخرى،

وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح »

وفي 11 كانون أول / ديسمبر 1917 دخلت الجيوش البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي القدس وبدأت في تنفيذ وعد بلفور عملياً وحدثت على أثر ذلك صدامات بين العرب واليهود وتشكلت جمعيات عربية ضد المشروع الصهيوني ،عندما أراد اليهود الاحتفال بمرور عام على وعد بلفور هدد العرب بالتظاهر غير أن المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل هدد بإلقاء القبض على كل عربي يتظاهر .

وعلى إثر إعلان هذا الوعد عمت الاحتجاجات جميع أنحاء فلسطين وبعض الاقطار العربية، وتأكد الفلسطينيون أن بريطانيا ماضية في فصل بلادهم عن الاقطار العربية، لا سيما بعد أن فرضت عصبة الأمم المتحدة الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1919 .

وحاولت بريطانيا تهدئة العرب، في الوقت الذي كانت تسعى فيه إلى فصل فلسطين عن بلاد الشام، ولكنها لم تنجح، حيث قام الفلسطينيون بأول ثورة شعبية عام 1920 .

وخلال انعقاد مؤتمر فرساي في كانون ثاني / يناير 1919 قدمت الحركة الصهيونية إلى المؤتمر خطة مدروسة واضحة المعالم لتنفيذ مشروعها، دعت إلى :

1- إقامة وصاية بريطانية لتنفيذ وعد بلفور .

2- أن تشمل حدود فلسطين ضواحي صيدا ومنابع الليطاني ونهر الأردن وحوران وشرق الأردن والعقبة وأجزاء من صحراء سيناء المصرية .

وفي هذا المؤتمر، وضعت سياسة الانتداب على المستعمرات التي كانت تابعة لألمانيا وتركيا قبل الحرب. كما دعا المؤتمر إلى تشكيل عصبة الأمم المتحدة لتكون تلك الدول بريطانيا وفرنسا مندوبة عن عصبة الامم .

وفي 31 أيار/مايو 1920م صدر إعلان الانتداب على فلسطين في مؤتمر سان ريمو وعين البريطاني الصهيوني هربرت صموئيل مندوباً سامياً في القدس، وكان وزيراً للداخلية البريطانية ومتعاطفاً مع الصهاينة .

وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان صك انتداب بريطانيا على فلسطين، كشفت بريطانيا عن مضمون وعد بلفور، واحتج الفلسطينيون وحدثت اشتباكات لأول مرة بين الحرس البريطاني والعرب . كما منعت بريطانيا المؤتمر الفلسطيني الثاني من الانعقاد في حيفا عام 1920 ، بعد أن أصبح تشرشل وزيراً للمستعمرات عقد مؤتمراً في القاهرة للعسكريين والموظفين البريطانيين لمراجعة الوضع البريطاني في المنطقة، حيث أوصى المؤتمر :

- الاستمرار في تنفيذ وعد بلفور، لأن بريطانيا ملزمة بإنشاء وطن قومي لليهود .

- ان تشكل في شرق الاردن مقاطعة عربية بقيادة الأمير عبدالله يكون مسؤولاً عنها أمام المندوب البريطاني دون أن تكون المقاطعة مشمولة في النظام الإداري لفلسطين، ودون أن تنطبق عليها شروط الانتداب. وليكون شرق الاردن مستعداً لاستقبال من يضطر من الفلسطينيين للمغادرة .

بدأت تتضح معالم المخطط البريطاني - الصهيوني في فلسطين منذ مطلع القرن العشرين، حيث أعلن الفلسطينيون رفضهم له، وأثاروا مخاطر هجرة اليهود الى فلسطين على الوجود العربي في فلسطين، وحذورا من السكوت على استمرار هذه الهجرة إلى بلادهم.

ويلاحظ أن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا يصرون على اعتبار فلسطين جزءاً من سورية الكبرى، ويرفضون تجزئة النضال، أو طرح مطالب إقليمية خاصة بهم، على الرغم من خصوصية قضيتهم لاختلاف الخطر عليهم عن بقية أبناء سورية الكبرى حيث إنهم كانوا مهددين بالهجرة اليهودية إلى بلادهم بتشجيع من الانتداب البريطاني، بينما كانت بقية الأقطار العربية تعاني من الاستعمار البريطاني او الفرنسي من دون أن تشكل الهجرة اليهودية أي تهديد ضدها.

ولذلك نجد أن الأمور تطورت في العشرينات، وبدأت تخرج أصوات من داخل فلسطين تطالب بالاستقلال الوطني الفلسطيني ، بعد إثارة كل قطر من الأقطار العربية لمشاكله الخاصة ودعوته للاستقلال القطري، وهو ما كانت تطمح إليه فرنسا وبريطانيا في المنطقة، على أساس أن يقوم كل قطر عربي بمواجهة مشاكله الخاصة به. وبدأ مفهوم "الدولة العربية الموحدة" التي وعدت بريطانيا بها الشريف حسين بن علي بالأفول في ظل الوجود الاستعماري الاوروبي، وانكفأ كل شعب في سورية الكبرى على نفسه، يعمل وحده ضد الوجود الاستعماري في بلاده.

وانعكس هذا الأمر على القضية الفلسطينية التي سارت هي أيضاً ضمن هذا التوجه. وبدأ بعض الفلسطينيين يطالبون باستقلال فلسطين دون اعتبار انهم جزء من جنوب سورية . وفي الوقت الذي كان فيه الشعب الفلسطيني يناضل ضد وعد بلفور وتزايد الهجرة اليهودية الى فلسطين بالتواطؤ مع الانتداب البريطاني، كانت الشعوب العربية مشغولة هي الاخرى بالعمل ضد الوجود الاستعماري في أراضيها، ولهذا فقد زادت الحركة الصهيونية من قوتها في الثلاثينات والأربعينات بمساعدة بريطانيا في غيبة الأمة العربية والإسلامية التي كانت تخوض معركة، وعندما استقلت الأقطار العربية أوائل الاربعينات، كان الوقت متأخراً جداً لكي تساهم تلك الجماهير مع الشعب الفلسطيني في معركته ضد الحركة الصهيونية وبريطانيا، إذ أعلن عن قيام الكيان الصهيوني، وكانت النتيجة ضياع فلسطين في حرب عام 1948، ودخلت منذ ذلك الوقت القضية الفلسطينية في أروقة السياسية العربية .

غير أن الصهاينة ظلوا يعتقدون أن كيانهم الذي أعلن فوق الأراضي المحتلة عام 1948 لم يشكل كل الأراضي التي يعتبرونها أرض اسرائيل، فكان أن استغل الصهاينة السنوات التالية لاعلان كيانهم من أجل تعزيز قوتهم العسكرية وطرد الكثير من المواطنين العرب من أراضيهم، وفي العام 1956 شاركت الدولة اليهودية مع فرنسا وبريطانيا في عدوان ضد مصر، وأبلغ ديفيد بن غوريون الكنيست أن من أهداف مشاركة الدولة اليهودية في العدوان «تحرير ذلك الجزء من الوطن القومي (شبه جزيرة سيناء) الذي كان يحتله الغزاة » .

غير أن البعد الاستراتيجي لاحتلال سيناء كان إبعاد القوات المصرية عن حدود الدولة اليهودية والحيلولة دون عبورها قناة السويس مما يتيح لها مهاجمة الكيان الصهيوني والوصول إلى النقب، وكان الصهاينة يرون في صحراء النقب هدفاً حيوياً يتوجب الدفاع عنه مهما كلف الأمر لأنها تشطر الوطن العربي إلى شطرين وتمنع الاتصال البري بينهما، وقد طالب الصهاينة الأمم المتحدة عام 1947 بالنقب، ولما اقترح الوسيط الدولي الكونت برنادوت عام 1948 ارجاع النقب للمواطنين العرب أقدم الصهاينة على اغتياله في اليوم التالي لاعلان اقتراحه .

ولم تفلح الجهود الاستعمارية في تحقيق الأهداف الصهيونية من خلال عدوان 1956، غير أن الجهود العربية ظلت قاصرة ومترددة مما منح الصهاينة فترة ذهبية لتعزيز قدراتهم العسكرية والتخطيط للهجوم حتى كان العام 1967 عندما اجتاحت القوات الصهيونية الضفة الغربية وقطاع غزة وهما ما تبقى من فلسطين بعد حرب العام 1948 تحت السيادة العربية، كما تمكن الصهاينة من احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية ، وقد انسحبت قوات الاحتلال اليهودي من سيناء بموجب اتفاقيات سلام مع مصر وضمن شروط تجعل من البوابة الشرقية لمصر مشروعة عملياً أمام أي محاولة اجتياح يهودية، فيما لا زالت الدولة الصهيونية تحتل الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات لبنان إلى جانب شريط حدودي من جنوب لبنان .

المقاومة العربية

لم تتوقف جهود العرب في الدفاع عن حقوقهم في فلسطين منذ مطلع القرن ففي العام 1918تشكلت جمعية الفدائية وهي جمعية سرية ضمت عدداً من رجال الشرطة الفلسطينية ، وقد لعبت الجمعية دوراً مهماً في الإعداد للثورة العربية في فلسطين وفي نشر الوعي بالخطر الصهيوني بين عشائر البدو في شرق الأردن ضد اليهود غير أن اعتقال زعمائها أضعفها وقضى عليها غير أنه لم يوقف جهاد الفلسطينيين والعرب ضد المخططات الصهيونية فكانت ثورة النبي موسى (4 -10 نيسان /أبريل 1920) وثورة يافا (1-5 أيار / مايو 1921)، ثورة البراق ( 15آب / أغسطس 1929) وهي مواجهات محدودة كانت دوافعها عاطفية، ولم تكن منظمة مما حدّ من إمكانات تطورها أو تحقيق أهدافها وان كانت لعبت دوراً في تأجيج الصراع وتعطيل المشروع الصهيوني جزئياً وبشكل مؤقت .

في المقابل نظم مجاهدون قوى مقاومة كان أهمها حركة الشيخ المجاهد عز الدين القسام (1935) وكان الشيخ القسام قدم إلى حيفا من سوريا بعد إنهيار الثورة السورية ضد فرنسا، وبدأ نشاطه كمعلم ،ثم انضم إلى جميعة الشبان المسلمين عام 1926، وكان أحد مؤسسي فرع حيفا سنة 1928، وفاز برئاسة الفرع عندما جرت انتخاباته، ثم أصبح عضواً في اللجنة الإدارية للفراع سنة 1930 ثم عاد رئسياً للفرع سنة 1933.

وكان الشيخ القسام يتجول في أنحاء فلسطين بوصفه موظفاً شرعياً في المحكمة، وبدأ في تجنيد الشباب في خلايا من 5 أشخاص ، ونشر الدعوة ضد اليهود والبريطانيين واستطاع أن يؤسس حركة جهادية تستمد - فهمها من الإسلام وتتبنى منهجية العمل الجهاد طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين، وبدأ القسام عملية بناء تنظيم سري اعتبر فيما بعد أهم منظمة سرية وأعظم حركة فدائية عرفها تاريخ الجهاد العربي في فلسطين خلال تلك الفترة .

كان معقله الرئيسي في الحي القديم في حيفا، حيث يقطن الفقراء، وأصبحت له شعبية كبيرة في جميع أنحاء فلسطي،. وفي عام 1935 نظم خمس لجان هي : الدعوة و الدعاية - التدريب العسكري - التموين - الانتخابات - العلاقات الخارجية، كما نظم ما بين 200- 800 من الأنصار.

وجاءت أحداث 1935 لتدفعه إلى البدء بالثورة في تشرين الثاني / نوفمبر من العام نفسه، وقد اعتبر إعلان حركة القسام للجهاد تغيراً أساسياً في مسار العمل العربي ضد المخططات الصهيونية التي كانت تعتمد على الجهود السياسية في محاولة الإصلاح والتغيير وتحقيق أماني أبناء الشعب الفلسطيني، والتجأ القسام مع 52 رجلاً من أنصاره في 12 / تشرين الثاني - نوفمبر 1935 إلى ضواحي مدينة جنين ودعا الفلاحين الفلسطينيين لمهاجمة القوات البريطانية في يعبد، وحاصرته القوات البريطانية وطلبت منه الاستسلام إلا أنه رفض، واستشهد مع اثنين من أتباعه، وتم أسر آخرين بعد معركة عنيفة خاضها القسام ورفاقه.

وأثار استشهاده الفلسطينيين في جميع أنحاء البلاد، وكانت جنازته بمثابة حداد وطني شامل في فلسطين. ويعتبر تنظيم القساميين الأول من نوعه نوعاً وهدفاً، إذ كان تنظيماً مسلحاً يستهدف اليهود والبريطانيين، وكان تنظيماً يقوم على الانتماء الإسلامي، وساهمت ثورة القسام واستشهاده في خلق وعي اسلامي ووطني فلسطيني بضرورة استعمال القوة لمقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين، لا سيما أن القسام شيخ وعالم شريعة قدم من سوريا ليقيم ويجاهد في فلسطين .

ولكن استشهاد القسام لم يخمد الثورة بل أجج نيرانها فكانت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، والتي اعتبرت من أطول الثورات في تاريخ القضية الفلسطينية، حيث عمت المظاهرات والإضراب العام مدن وقرى فلسطين وكانت التحرك الشامل الأول من نوعه حيث تداخلت الوسائل المدنية للثورة مع العمليات الجهادية .

ويشير المؤرخون إلى أن من الأسباب غير المباشرة التي أدت الى قيام الثورة :

- تزايد عدد العمال العاطلين عن العمل .

- الهجرة اليهودية المستمرة ، والتواطؤ البريطاني الظاهر معها ومع كل جهود تنفيذ المشروع الصهيوني .

- تسرب الأراضي إلى اليهود ، بسبب الضغوط البريطانية على أصحابها العرب .

- الأزمة الاقتصادية الخانقة عام 1935 .

- ما حدث في مصر وسوريا ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي .

- الهجوم الإيطالي على الحبشة، الذي أحيا الأمل بحرب جديدة تعيد رسم سياسات جديدة في المنطقة .

- زيادة التوتر بين العرب واليهود في خريف عام 1935 .

وبدأت الأحداث في 15 نيسان / ابريل 1936 عندما قتلت المنظمات الفدائية مستوطناً صهيونياً وجرحت اثنين آخرين على طريق نابلس - طولكرم.

وفي الليلة التالية قتل اليهود مدنيين عربيين على الطريق العام إلى الشمال من مستعمرة عليبي، وعند تشييع جنازة المستوطن اليهودي حدثت اشتباكات مع العرب، وحدثت صدامات على حدود يافا- تل أبيب .

وأعلنت السلطات البريطانية منع التجول في يافا- تل أبيب، وفرضت حالة الطوارئ في جميع البلاد، وتشكلت في 20 نيسان /ابريل 1936 لجنة عربية في نابلس اعلنت الاضراب العام.


وبعد أن زاد عدد القوات البريطانية إلى قرابة 20 ألف جندي حصلت معارك عنيفة بين الثوار والقوات البريطانية والصهيونية في شهر تشرين الأول عام 1935. وقامت وفود فلسطينية بزيارات إلى عمّان والرياض وبغداد، ونتيجة لضغوطات بريطانية، قام الملوك والرؤساء العرب بإصدار نداء مشترك في 10 تشرين أول/ أكتوبر 1935 دعوا فيه العرب إلى «وقف الثورة، والاعتماد على النيات الطيبة" لصديقتنا بريطانيا العظمى التي أعلنت أنها ستحقق العدالة».

ونتيجة لذلك دعت اللجنة العربية العليا إلى وقف الإضراب، وإلى حل التنظيمات العربية وعودة الثوار العرب إلى دولهم .

وكانت حصيلة هذه الثورة : مقتل 16 رجل بوليس و22 جندياً بريطانياً، وجرح 104 رجال بوليس و148عسكرياً، ومقتل 80 مستوطناً صهيونياً وجرح 308 مستوطن صهيوني . أما العرب فقد استشهد منهم 145 رجلاً وجرح 804 آخرون .

وأرسلت بريطانيا لجنة بيل الملكية لتقصي الحقائق إلى فلسطين، ولكن الفلسطينيين أرادوا عدم مقابلتها، فهدد الملوك العرب الفلسطينيين، وطلبوا منهم الموافقة على مقابلة اللجنة .

غير ان الثورات لم تتوقف إذ تجددت بعد مقتل أندروز حاكم الجليل البريطاني وأقدم البريطانيون على اتخاذ سلسلة اجراءات انتقامية ضد القادة العرب في فلسطين مما جدد الثورة وعمت البلاد ثورة مسلحة أرغمت البريطانيين على التراجع عن عدد من مواقفهم السياسية التي كانوا يعتزمون بموجبها فرض تقسيم لفلسطين بين العرب والصهاينة .

أما الضربة الأشد التي تلقاها الجهاد العربي في فلسطين فكان هزيمة الجيوش العربية في حرب العام 1948، مما أحدث تحولات كبيرة في بنيان المقاومة والجهاد وسحب المبادرة من يد الشعب عملياً، وأحال الفلسطينيين إلى شأن رسمي تحكمه التوازنات الداخلية وسياسات الأنظمة .

إلا أن ظهور المنظمات الفدائية أعاد في البداية الاعتبار للدور الشعبي في مواجهة المشروع الصهيوني وزج بالجماهير كطرف أساسي في المعادلة وهو طرف أرغم الأنظمة الرسمية على تبني مواقف ساهمت في الحيلولة دون تمدد الدولة العبرية وإحباط مشاريعها أحياناً .

وبسبب أخطاء قيادات منظمات المقاومة تقلص دور الجماهير وتحولت منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت مظلة العمل الفلسطيني إلى شبه سلطة على الجماهير وحركتها، وهو وَضْعٌ حدَّ كثيراً من حركتها بسبب تشابك المصالح الخاصة بالمنظمة وقيادتها مع مصالح الأنظمة العربية والقوى الاقليمية

وبسبب أخطاء قيادات منظمات المقاومة تقلص دور الجماهير وتحولت منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت مظلة العمل الفلسطيني إلى شبه سلطة على الجماهير وحركتها، وهو وَضْعٌ حدَّ كثيراً من حركتها بسبب تشابك المصالح الخاصة بالمنظمة وقيادتها مع مصالح الأنظمة العربية والقوى الاقليمية والدولية .

إلا أن طبيعة المشروع الصهيوني وأبعاده التي تتعرض لحياة الانسان العادي ووجوده ظلت محفزاً أساسياً للجماهير من أجل الانخراط في مقاومة المشروع وابتكار وسائل مناسبة لذلك، فكانت الثورات الشعبية التي توجها الشعب الفلسطيني بانتفاضته المباركة عام 1987 وظهور حركة المقاومة الاسلامية "حماس" التي نشأت وترعرعت خارج رحم السلطة وفي أحضان الشعب الرئيسي والجماهيري باعتبارهم المستهدف الأول من المشروع الصهيوني والمتضرر الرئيسي من إجراءات الصهاينة، وخط الدفاع الذي لا ينكسر في مواجهة المشروع الصهيوني، فالأنظمة والنخب قد تفتر وقد تهزم وقد تنمحي غير أن الشعب والجماهير لا تموت مهما أثخنتها الجراح فتظل قادرة على النهوض من جديد والمقاومة حتى النصر .


المصدر..المركز الفلسطيني للاعلام


الجمعة، 7 مايو 2010

أزمة الإستراتيجية في منهج التغيير(३)

لكننا نلحظ تغيرا في هذه الاستراتيجية بعد العام العاشر من البعثة .. وهو العام الذي فقد فيه النبي صلى الله عليه وسلم تأييد العشيرة بوفاة أبي طالب وازدادت فيه شراسة قمع السلطة السياسية في قريش وجرأتهم على النبي صلى الله عليه وسلم لدرجة أيس منها صلى الله عليه وسلم من كسب تأييد النخبة السياسية بقريش. حينها غير النبي صلى الله عليه وسلم البندين الأوليين من الاستراتيجيه ليصبحا:
1- إيجاد سلطة ترحب بالفكرة وتعينه على تبليغ الدعوة
2- دخول صراع مع قريش لتحييدها (خلوا بيني وبين الناس) مما يمكنه صلى الله عليه وسلم من التحرك في الجزيرة العربية
ثم الانطلاق بالدعوة بعد استقرار الأوضاع إلى المحيط العالمي.

فنرى النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى ثاني القريتين الطائف محاولا إيجاد النصرة فيها لما تتمتع به من قوة ومكانة تؤهلها للتصدي لقريش .. وبعد فشل المحاولة دأب صلى الله عليه وسلم في عرض فكرته على القبائل حتى وفقه الله صلى الله عليه وسلم لهذه الثلة المؤمنة من يثرب .. وبعد الهجرة دخل النبي صلى الله عليه وسلم من العام الثاني للهجرة في صراع لتحييد قريش حتى تخلي بينه وبين الناس لينجح في ذلك في العام السادس من الهجرة عن طريق صلح الحديبية .. وبعد استقرار الأوضاع وفي طريق عودته من الحديبية بدأ صلى الله عليه وسلم في الانطلاق بالدعوة عالميا بمكاتبة الملوك والأمراء .. وانتهى الأمر ببداية المناوشات مع القوى العظمى العالمية في مؤتة وتبوك .. ليكمل الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم توصيل دعوة الإسلام للعالمين.

ولا تكتمل الفائدة من عرض هذه الاستراتيجية حتى نجيب على سؤال هام وهو .. ما هو الثابت الذي يجب ان تلتزم به حركتنا وما هو المتغير الذي يجوز لها أن تبدله في هذه الاستراتيجية ؟ .. والإجابة التي قد تكون عكس المتوقع أن هذه الاستراتيجية في مجملها تعتبر أمرا متغيرا من وجهة نظري .. وهذا ببساطة لأن الظروف التي وضعت فيها هذه الاستراتيجية وطبقت ونجحت تختلف تماما عن الظروف التي نعمل خلالها الآن وذلك في نواح ثلاث:
1- اختلاف البيئة القبلية بظروفها الإجتماعية والسياسية عن الظروف الاجتماعية والسياسية في الدول الإسلامية .. فلا يجوز مثلا ان نقول أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التغيير هو عبر آلية سياسية متمثلة في طلب النصرة من اهل المنعة في المجتمع (وهي حاليا مؤسسة الرئاسة او القوات المسلحة) وهي استرتيجية يجب أن نتبعها (كما يفعل حزب التحرير مثلا)
2- اختلاف الوضع العالمي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والذي لم تكن فيه القوى العظمى على دراية بهذا الدين ولا بالصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش حتى راسلها النبي صلى الله عليه وسلم في العام السابع من الهجرة ( أي بعد عشرين عاما من البعثة) وهذا يتضح في رد فعل قيصر مثلا ( الذي طلب أن يلتقي بأحد من العرب ليستفهمه عن هذا النبي وجرى بينه وبين أبي سفيان الحوار الشهير) أو في رد فعل كسرى (الذي أرسل لأميره على اليمن يأمره بإرسال جنديين لاعتقال النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الوضع مكن النبي صلى الله عليه وسلم من ترتيب الوضع الداخلي وتحقيق الاستقرار الإقليمي قبل أن يدخل في صراع مع القوى العظمى .. هذا الوضع يختلف تماما عن الوضع الحالي الذي تملك فيه القوى العظمى في المجتمع الدولي آلاف الأبحاث والدراسات عن حركة الإحياء الإسلامي وأفكارها ورموزها وأهدافها كما انها تدخل بالفعل في صراع مباشر او غير مباشر معها (عبر الانظمة التسلطية العلمانية) مما يفرض على الحركة الإسلامية صراعا مع هذه القوى قبل ان تحقق استقرارا في بيئتها المحلية.
3- الأمر الثالث البدهي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرك بالإسلام في بيئة كافرة بينما تتحرك دعوتنا بأفكار إحياء إسلامي في بيئة مسلمة درست معالمها الإسلامية .. وكلا الحالتين مختلفتان في أحكامهما الفقهية ولغة الخطاب التي يجب أن تستخدم وأساليب الدعوة الملائمة.
ومع هذا تظل بعض القواعد والأسس التي تبقى ثوابتا لأي استراتيجية إسلامية صحيحة مثل الاهتمام بتربية أبناء الحركة تربية إيمانية وروحية عميقة ومثل رفض استخدام العنف والإكراه ونحو ذلك كآليات للتغيير داخل مجتمعاتنا.

والخلاصة أننا نخطئ حين نصر على التمسك بآلية التغيير التحتي ونرفض أي محاولة نقد أو تقييم لها ونغلق الباب أمام أي اجتهادات أخرى أكثر ملائمة لأوضاعنا الراهنة ونزعم أن أي سعي للسلطة الآن هو استباق لمرحلة المجتمع المسلم تحت دعوى أن التغيير التحتي هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التغيير لأن هذا التصور لا يتماشى مع حقائق السيرة من جهة .. وأن استراتيجية التغيير التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لا تتلاءم بمجملها وتعقيدات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها في عالمنا الآن من جهة أخرى.
--4—
ونعود ثانية لمناقشة استراتيجية الجماعة المتمثلة في المراحل التي صاغها الإمام البنا بدءا بالفرد المسلم فالأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالحكومة المسلمة وانتهاء بدولة الخلافة وأستاذية العالم فنتساءل أين الخلل؟!! ولماذا تتعثر الجماعة في خطوتها الثالثة أكثر من ثمانين عاما؟! ولماذا لا تؤتي مساعيها الدؤوبة من أجل تحقيق المجتمع الإسلامي النتائج المرجوة؟! ومتى وكيف يمكن الانتقال لمرحلة الحكومة المسلمة؟!

أزعم أن المشكلة الرئيسية بخصوص هذه الاستراتيجية هي أنها قد صيغت في ظروف قد تغيرت ووفق قراءة لواقع قد تبدل .. بمعنى أن هذه الاستراتيجية التي صاغها الإمام البنا رحمه الله هي بنت الحقبة الليبرالية في التاريخ المصري والتي امتدت ثلاثين عاما (من 1922 إلى 1952) .. هذه الحقبة التي كان يمكن خلالها تكوين جمعية اهلية دعوية فتتحرك في المجتمع وتنتشر بشعبها ومساجدها وبمدارسها وشركاتها وبأنشطتها وإصداراتها في طول البلاد وعرضها خلال سنوات معدودة .. هذه الحقبة التي كانت تتمتع بانتخابات نزيهة وتداول سلمي للسلطة بحيث يمكن أن نتخيل انه حين ينضج الخطاب الإسلامي السياسي ويملك رؤية واضحة للتعامل مع الواقع وحين ينجح في توصيل فكرته للمجتمع أن ينال ثقة الناخب ليحمله إلى البرلمان بل وإلى تشكيل الحكومة.


وبالرغم من أن هذه الاستراتيجية وفق معطيات هذه الحقبة تبدو منطقية إلا انها تعرضت لانتكاسة خطيرة في عام 1948 وذلك يرجع إلى أمرين : أولهما ان الجماعة خرجت بعد الحرب العالمية الثانية وهي أصلب القوى السياسية عودا وأكثرها شعبية وأوسعها تأييدا مما أغراها – وأغرى بها – لتدخل في صدام مع كافة القوى السياسية الرئيسية في المجتمع آنذاك .. إذ خاضت الجماعة صراعا مع الوفد (حزب الأغلبية) من جهة ومع الملك واحزاب الأقلية من جهة ثانية ومع الشيوعيين من جهة ثالثة .. ثانيا: هو دور الجماعة في حرب 1948 والذي تسبب في تغير استراتيجية القوى الدولية في التعامل مع الجماعة بعد ان أدركت مدى قوتها وخطورتها على مصالحها في المنطقة .. فبدلا من المراقبة عن كثب ومحاولة الاحتواء قررت هذه القوى الإجهازعلى الجماعة واستئصالها ... وهكذا دخلت الجماعة صراعا عنيفا مع القوى الخارجية دون ظهير من القوى الداخلية .. فكانت موازين القوة بالتأكيد في غير صالح الجماعة.

وبعد ثورة يوليو 1952 ثم الصدام المروع مع الجماعة (والذي ربما أعود للحديث عنه لاحقا) في عام 1954 دخلت مصر نفق الحكم العسكري وتمت تصفية منظمات المجتمع المدني وتم حظر الأحزاب وفرضت الرقابة على الإعلام وأممت الحياة السياسية فلا انتخابات حقيقية ولاتداول للسلطة .. وبالرغم من خروج أعضاء الجماعة من السجون حوالي عام 1974 وبالرغم من بعض اجراءات التحول الديمقراطي عام 1977 والذي أعاد الحياة الحزبية (ولو شكليا) وبالرغم من إجراء الانتخابات النيابية في مصر بشكل منتظم ودوري أوالطفرة في نشاط منظمات المجتمع المدني منذ منتصف التسعينيات أوزيادة سقف حرية التعبير عن الرأي إلا أن سمات الحكم الديكتاتوري لا تزال تغلب على نظام الحكم في مصر فلا انتخابات نزيهة ولا تمثيل نيابي حقيقي ولا تداول سلمي للسلطة ومازال الأمن ممسكا بكافة الملفات السياسية للبلد ومازال مسلسل التنكيل بالمعارضين مستمرا.

ويكون هنا السؤال .. في ظل هذه الظروف كيف يمكن للجماعة أن تتبنى استراتيجية الفرد المسلم فالأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالحكومة المسلمة؟! إذ كيف يمكن للجماعة أن تنجح في تغيير المجتمع وأفرادها مهددون وتنظيماتها دون غطاء قانوني ورموزها معتقلون وصحفها مصادرة ومساجدها مؤممة ومدارسها محاربة؟ وإذا فرضنا أن الجماعة نجحت في تغيير المجتمع وإقناعه بمشروعها عن الإسلام الوسطي الشامل .. أين هي الانتخابات التي ستعكس رأي هذا المجتمع لتأتي بالحكومة الإسلامية ؟!

ولهذا فإننا نخطئ حين نجعل الآن من تكوين المجتمع المسلم هدفنا المرحلي الاهم الذي لابد أن توجه له كل الجهود وتفرغ له كل الطاقات ويقدم له كل الدعم والإمكانيات في حين نكتفي بالتمثيل المشرف والمشاركة الرمزية في مجال مقاومة النظام المستبد والسعي من أجل التحول الديمقراطي ॥ لأننا ببساطة إذا أردنا ان نطبق استراتيجية الإمام البنا رحمه الله فلابد ان نستعيد أولا الحالة الليبرالية التي كانت عليها مصر حين صاغها .. هذا بالطبع مع الاستفادة من تجارب الماضي ودراسة متغيرات ومستجدات الحاضر سواء بسواء।

منقول من موضوع الاخ عمار البلتاجي علي الملتقي الاخواني

أزمة الإستراتيجية في منهج التغيير(2)

وأحب هنا ان اتوقف للحديث عن استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم في التغيير .. بمعنى كيف خطط النبي صلى الله عليه لإنشاء دولة الإسلام التي تهدف إلى إقامة الدين وتبليغ الرسالة للعالمين ..
بقراءة متأنية غير منحازة للمرحلة المكية من السيرة النبوية نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى استرتيجيته المبدئية على مراحل ثلاث:
1- محاولة كسب العشيرة لتحقيق المنعة والنصرة داخل قريش
2- ثم محاولة كسب قريش لتحقيق المنعة والنصرة داخل الجزيرة العربية
3- ثم الانطلاق بالدعوة بعد استقرارها في مجالها الإقليمي إلى المحيط العالمي

وقد تبنى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الاستراتيجية المبدئية منذ العام الثالث للبعثة –بعد الأمر بالجهر بالدعوة- وحتى العام العاشر للبعثة –عام الحزن- .. فالنبي صلى الله عليه وسلم فور أمره بالجهر بالدعوة توجه أولا لعشيرته محاولا اكتسابها وبعد أن نجح في كسب تأييد زعيمها أبوطالب وتحقق بعض المنعة في داخل المحيط القرشي سعى صلى الله عليه وسلم لكسب تأييد زعماء القبائل في المجتمع القرشي وذلك عن طريق الحوار والإقناع بالخطاب الإيماني (أفرغت يا أبا الوليد ثم تلى عليه صدر سورة فصلت) وبالخطاب العقلي ترغيبا (قولوا كلمة تدين لكم بها العرب وتملكون بها العجم) وترهيبا (إني نذير لكم بين يدي عذاب أليم)

ونلحظ هنا أن هذه الاستراتيجية هي استراتيجية سياسية تهدف إلى تغيير فوقي .. بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى إلى تغيير المجتمع القرشي عبر كسب تأييد السلطة السياسية (المتمثلة في زعماء القبائل) ولم يسع إلى تغير تحتي متمثلا في تغيير المجتمع القرشي لتغيير نوعية قيادته .. وهي استراتيجية ملائمة لطبيعة المجتمع القبلي الذي تدين فيه القبيلة بالولاء والطاعة شبه التامة لزعيم القبيلة وبالتالي فإن دخول أحدهم في الإسلام يعني غالبا دخول قبيلته قاطبة في الإسلام (وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك في المدينة المنورة مع سعد بن معاذ وبني عبد الأشهل مثلا) .. الامر الثاني الذي نلحظه أن هذه الاستراتيجية سلمية تماما مبنية على الحوار والإقناع .. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلجأ إلى العنف أو التثوير أو الاغتيالات السياسية بل اعتمد على الحوار والإقناع .. وحتى حين قوبلت دعوته بالعنف لم يرد بالمثل لكنه في نفس الوقت لم يقف متفرجا بل سعى جاهدا لتخفيف معاناة أتباعه باستغلال الأعراف والقوانين المتاحة كالدخول في الجوار وباستهداف إسلام شخصيات من قيادات الصف الثاني في المجتمع القرشي كحمزة بن عبدالمطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لتحقيق المزيد من المنعة وباللجوء السياسي المتمثل في هجرة الحبشة.

وقد يثور سؤال هنا منتقدا هذا الرؤية لاستراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم في التغيير وهو: أين دار الأرقم وسورة المزمل والتربية الإيمانية في هذه الاستراتيجية؟ وهو سؤال وجيه .. لكن هذه القراءة لاستراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم تتحدث عن تغيير المجتمع وليس الفرد .. بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بذل بالفعل جهدا في التربية الروحية والإيمانية لأنصاره .. وأن هذه التربية لابد منها لأصحاب الدعوات لأن الحركة بالفكرة بين الناس يستتبع ابتلاء بالضراء والسراء لا يثبت فيه إلا خريجي دار الأرقم.. وكذلك فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحركوا في المجتمع بالدعوة فرديا لضم أنصارا جدد للفكرة .. لكن لا يمكن الزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى استراتيجية تحتية بتغيير المجتمع عبر الزيادة بالمتوالية العددية (الفرد يأتي باثنين واثنين يأتون بأربعة والأربعة بثمانية .. وهكذا حتى يتغير المجتمع) ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ما بين ثلث إلى نصف أتباعه بالهجرة إلى الحبشة وهو الأمر الذي يؤثر سلبا على القوة العددية للمسلمين .. هذا بالإضافة إلى استحالة حدوث ذلك في وجود سلطة تحارب الفكرة تعذيبا وقمعا وتشويها.

أزمة الإستراتيجية في منهج التغيير

تعتبر المراحل التي صاغها الإمام البنا رحمه الله كمنهج للتغيير بدءا بالفرد المسلم فالبيت المسلم فالمجتمع المسلم فالحكومة المسلمة ووصولا إلى دولة الخلافة واستاذية العالم هي الصيغة الوحيدة – على عموميتها - التي تتناول الرؤية الاستراتيجية للجماعة .. وبالرغم من أنه رحمه الله لم يؤصل لهذه الرؤية الاستراتيجية شرعيا مما يعني أنها رؤيته الشخصية إلا أن الكثيرين بعده أصبحوا يؤصلون لهذه الرؤية على أنها المنهج النبوي للتغيير مما أعطى هذه الرؤية حصانة من محاولات النقد والتقييم داخل الجماعة لترتقي إلى مرتبة الثوابت في الفكر الإخواني بل ولتصبح واحدة من أهم ثوابته.

لذا فإنني سأبدأ من هذه النقطة: هل التغيير وفق هذه المراحل هو منهج نبوي حقا؟ أي هل قام النبي صلى الله عليه وسلم بتربية الفرد في مكة فنشأ منه البيت المسلم ثم انطلق يربي المجتمع القرشي الذي تحكمه سلطة معادية للمشروع تحاربه وتعذب أفراده وتشن عليه وعلى رموزه حملة تشويه منظمة لكنه بالرغم من ذلك صبر وتحمل حتى تمكن من إتمام مهمته بتربية المجتمع فخرجت منه الحكومة المسلمة ؟!! هذا لم يحدث

هل قام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في المدينة ؟ أي هل يمكن القول بأن مصعب بن عمير رضي الله عنه عندما ذهب إلى المدينة قام بتربية المجتمع (أي قام بتكوين الفرد ثم الأسرة فالمجتمع وأتم هذه المراحل كلها بنجاح في عام واحد)؟ أم أن الأمر كان تهيئة للأوضاع داخل المدينة لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم ولإقامة الدولة فحسب؟!

وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع حالة الانسداد التي حدثت في مكة منذ العام العاشر (عام الحزن) إلى العام الثالث عشر للبعثة بعد نجاح السلطة المعادية للمشروع في وقف انتشار الإسلام بحملات التعذيب والتشويه؟ هل أصر على أنه سيكمل مشروعه بتربية المجتمع تحت هذه السلطة المعادية للمشروع مستعينا بالصبر ومواجها التعذيب بالاحتمال وعدم الرد ؟ وكيف سيكون الأمل في نجاحه صلى الله عليه وسلم في تربية المجتمع إذا اتبع هذه الطريقة؟

وما هو سر نجاح مصعب بن عمير رضي الله عنه في تهيئة المدينة لإقامة الدولة ؟ أليس تبني السلطة في يثرب (سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة ) للمشروع الإسلامي؟ فإذا رفض هؤلاء الزعماء المشروع الإسلامي كم سيكون احتمال نجاح مصعب بن عمير في تهيئة مجتمع يثرب لإقامة الدولة؟ ألن يصبح الأمر مشابها لمحاولة النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف؟ (عبدالله بن أبي بن سلول على الرغم من أنه لم يقبل المشروع الإسلامي لكنه لم يتحرك لايقافه ولم يشن عليه حملات تشويه أو تعذيب كالتي شنها زعماء مكة فظل مجتمع يثرب مفتوحا للدعوة)

إن السبب الرئيسي في حالة الانسداد التي نعيشها هو أننا نصر على الجمع بين أربع متناقضات الجمع بينهم مستحيل:
- تغيير جذري ( لا يقف عند القشور بل يصل إلى قلب وعقل وسلوك الأفراد)
- للغالبية العظمى من المجتمع
- في ظل وجود سلطة معادية تحارب المشروع بالقمع والتشويه
- بطريقة سلمية
وهذا غير منطقي ... فلكي نقوم بعملية التغيير هذه لابد أن نغير أحد الشرطين الأخيرين .. أي:

إما ان يكون تغييرا جذريا لغالبية المجتمع في ظل وجود سلطة مرحبة بالمشروع ومتبنية له بطريقة سلمية لا إكراه فيها للأفراد على المشروع

أو تغييرا جذريا لغالبية المجتمع في ظل وجود سلطة معادية تحارب المشروع بالقمع والتشويه بطريقة عنيفة تزيح هذه السلطة لنتمكن من إتمام المشروع

لهذا فإننا حين نعمل ونتحرك وفق الظروف الراهنة يجب ألا نقع في خطأين:
الأول:أن نترك التفكير في الخروج من حالة الانسداد هذه ونرفض أي محاولة لنقد المنهج أو تطويره بحجة أن هذا هو نهج النبي صلى الله عليه وسلم في التغيير.. فهذا يورث الجمود ويصرف مجهود الدراسة والمراجعة و التطوير إلى الشكليات والتحسينات لا إلى الأساس (إلى التنفيذ والإجراءات لا إلى الاستراتيجيات والسياسات)

الثاني:أ ن نعظم من أهدافنا ونتصور أننا يمكن أن نتم مشروعنا ونتمكن من تربية المجتمع وإنجاز مرحلة المجتمع المسلم ونحن أسرى هذه الظروف... فتعظيم الأهداف في ظل غياب القدرة على التنفيذ يورث الإحباط واليأس



دعوتنا لابد أن تدخل في طور جديد !

بقلم د/ محمد عفان



إن كانت ثمة فائدة في الأزمة التي مرت بها جماعتنا فهي انهاء حالة العماء عند غالبية قواعد الإخوان .. وأعني بحالة العماء هو تجاهل وإنكار تأزم مشروعنا الإصلاحي وحاجة الجماعة الملحة لإعادة تقييم آدائها واستراتيجيتها وأوضاعها الداخلية وفتح باب النقد الذاتي والمراجعة وتجديد الأفكار

ورغم أنني أدرك تماما أن عملية المراجعة والنقد الذاتي لايمكن أن تؤتي ثمارها إلا حين تكون عامة وممنهجة ويقوم بها متخصصون في كافة الملفات المطروحة والأهم من هذا بقناعة من القيادة وتحت إشرافها ... إلا أنني في هذه المقالات أحاول أن أشرك إخواني من داخل الجماعة والمهتمين بها من خارجها في بعض أوجه التطوير التي تحتاجه الجماعة والتي تعالج قصورا يسبب تأزم مشروعها الإصلاحي .. ولا أزعم أن هذه الآراء آراء نهائية تفصيلية بل هي مبدئية تمثل رؤوس أقلام لموضوعات عامة.
وأحب في النهاية أن أوضح نقطتين:

الأولى هي شبهة أنه ينبغي للقواعد أن تهتم بالشئون التفصيلية التي تدخل في نطاق مهامها وألا تعنى بالقضايا الكبرى المتعلقة بالجماعة .. وهذا مفهوم خاطئ شرعا ومنطقا .. فالمنطق يقول أنه إذا كان الأخ يمثل ترسا في آلة الجماعة الضخمة فلابد أن يدرك ما هي علاقة ما يحققه من أهداف ومستهدفات بالاستراتيجية الكلية للجماعة وكذلك فإن أي خلل يصيب جزءا من الآلة فإنه بالقطع يؤثر على انتاجه هو حتى وإن أدى مهامه بكفاءة .. أما شرعا فالنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن الاهتمام دليل الانتماء " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" والأخ الذي لا يهتم بأحوال الجماعة بالمناقشة والرأي لا ينتمي إليها وإن انتظم في صفوفها وشارك في أنشطتها.

الثانية: هي شبهة المبالغة في التنظير والبعد عن الواقع التي تلتصق بكل من يقدم نقدا منهجيا نظريا وهو أمر بالغ السلبية .. فالإصلاح كما قال د.سيف عبد الفتاح هو ذروة عملية لقواعد نظرية .. والعلوم الاجتماعية والانسانية هي الكتالوج الذي لابد أن يمتلكه العاملون في مجال إصلاح الفرد والمجتمع .. و مراكز الأبحاث والدراسات الاجتماعية والسياسية هي العقل الذي لابد أن تطيعه العضلات في حركتها وإلا كان جهدها عشوائيا ومتخبطا وغير فعال.

آداب الحوار والنقاش


الحوار
كلمة جميلة رقيقة
تدل على التفاهم والتفاوض والتجانس





ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم في قوله: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) [الكهف: 37]، ويوم أن تحاور عليه الصلاة والسلام مع المرأة الضعيفة المسكينة التي تشكو من زوجها، قال سبحانه: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) [المجادلة: 1]؛ فسمع الله هذا الحوار – وسع سمعه السموات والأرض جل في علاه- ونَصّ عليه في كتابه العزيز رِفعة لشأن الحوار وإثباتاً لأهميته.

وقد ميّز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بصفة الكلام والحوار، وأثنى على ذلك في آيات كريمات:
ففي التحاور مع الأبناء: (يَا بُنَيَّ) [لقمان: 13] كما قال لقمان عليه السلام لابنه،
وفي التحاور مع أهل الكتاب (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ) [آل عمران: 64]
وفي التحاور مع المشركين: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة: 6]

وثمرة الحوار هو الوصول إلى الحق، فمن كان طلبه الحق وغرضه الحق وصل إليه بأقرب الطرق، وألطفها وأحسنها، والطريق الواضح هو طريق الحوار الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يحمل السيف، قال سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) [الحديد: 25]، فقبل أن يرسلهم بالسيوف القاطعات والرماح المرهفات، أرسلهم بالآيات والبينات، وكما يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إن الأنبياء بعثوا بالحجج والبراهين، والخلاف واقع في الأمة"، قال سبحانه: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118، 119] قيل (اللام) هنا ليست للقصد ولا للسبب عند بعض المفسرين وإنما للصيرورة، وقيل: إن الله – سبحانه وتعالى- خلقهم، فنوع في مفاهيمهم ومواهبهم، فوقع الخلاف في ذلك..

والخلاف في الأمة على قسمين:
أ‌- خلاف تنوع: وهو الذي يُسلك في الفروع لا في الأصول، وفي الجزئيات لا في الكليات.
ب‌- خلاف تضاد: وهو المذموم، قال سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105]، وهم الذين يخالفون في القطعيات، وثوابت الأمة، وأصول الملة، فهذا خلاف مذموم.



آداب الحوار:

أعرض هنا ثلاثة عشر أدباً من آداب الحوار:

1- الإخلاص والتجرد:
على المحاور أن يتجرد من التعصب؛ فلا يعقد التعصب لفرقته أو مذهبه أو فكرته، ثم لا يقبل منك، ويريد أن تسلم وتقر له دون أن يناقشك.

2- إحضار الحجة:
فإن صاحب الحجة قوي، قال الشافعي: "من حفظ الحديث قويت حجته"، وأما أن يأتي إنسان بكلام فضفاض وعاطفي وإنشائي ويقول بأنه يحاور الناس ويجادلهم، فهذا ليس صحيحاً. والحجة إما أن تكون عقلية قاطعة، أو نقلية صحيحة.

3- السلامة من التناقض:
فإن من الواجب على المحاور أن لا يناقض كلامه بعضه بعضاً؛ لأن بعض الناس -لقلة بصيرته-, يأتي بكلام ليس مترابطاً في موضوع واحد وإنما يتعارض مع بعضه.

4- الحجة لا تكون هي الدعوى:
كأن يقول أحدهم: ما دام أني قلت هذا القول، فقولي هذا حجة ودليل. ويزكي نفسه، وبعضهم يحسب قوّته بطول عمره.

5- الاتفاق على المسلّمات:
فالأصول لا يُناقش فيها ولا يُحاور. ففي الملة ثوابت لا ينبغي أن نضيع أوقاتنا بالجلوس لمناقشة الأصول الثابتة؛ كألوهية الباري سبحانه وتعالى، واستحقاقه للعبودية جل في علاه، وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، وأن أركان الإسلام خمسة. فهذه أمور مسلّمات ومقررات مجمع عليها، وفي مناقشتها تشويش على الناس، وتضييع لوقتك وأوقات الآخرين.
ويجب الانتباه إلى أن هذه المسلّمات قد تختلف باختلاف المحاوَر كأهل الكتاب أو الكفار أو المشركين.

6- أن يكون المحاوَر أهلاً للحوار:
فلا تأتِ برجل مشهور عنه الجهل والنزق والطيش وتحاوره، لأن أذاه أكثر من نفعه.

7- نسبة القرب والبعد من الحق:
فالأمر نسبي، إذ لا يشترط دائماً أن يكون مئة بالمئة: فإن وافقني في كل شيء فهو أخي أتولاه وأدعو له في أدبار الصلوات، وإن خالفني فهو عدوي أتبرأ منه وأدعو عليه.. لا!
ورحم الله ابن قدامة إذ يقول في كتابه "المغني": "وأهل العلم لا ينكرون على من خالفهم في مسائل الاختلاف".

8- التسليم بالنتائج :
فإذا توصل المتحاورون في حوارهم إلى أمور، فعلى المغلوب أن يسلم للغالب، وهذا من طلب الحق، يقول عبد الرحمن بن مهدي: "إن أهل الخير وأهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم".

9- المحاورة بالحسنى:
يقول العلماء –كأبي حامد الغزالي في الإحياء-: أن تحاوره فلا تتعرض لشخصه، ولا لنسبه وحسبه وأخلاقه، وإنما تحاوره على القضية.

10- الإنصاف في الوقت:
فإذا حاورت إنساناً فلا بد أن تتفق معه، وتقول له: تصبر لي وتسمع مني حتى أنتهي، وأصبر وأسمع منك حتى تنتهي، لك خمس دقائق ولي خمس دقائق –مثلاً- أو لك نصف ساعة ولي نصف ساعة، لا تقاطعني ولا أقاطعك.

11- حسن الإنصات:
فكما تطلب من محاورك أن يُحسن الإنصات، والاستماع إليك -وهو من الأدب- فعليك أن تستمع له إذا حاورك؛ لأن بعضهم ينقصه حسن الإنصات، وحسن الإنصات من حسن الخلق.


وصدق الله العظيم إذ يقول: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل 125].




بقلم وريشة:
هداية

كنز مفقود

بسم الله..


[ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ]..

عندما يهبك الله الهدى ويغرس فيك بتلات الدين..
فإنّه يحبك!..

أفنحن نحب الله؟!..


وإذا كنّا نحبّه فهل نحن مخلصون!..
مخلصون في حبّه..
في طاعته.. في اتباع أوامره سبحانه..
في اجتناب نواهيه عزّ وجلّ..

[ قُل إنِّي أمرتُ أن أعبُدَ الله مُخلِصًا له الدّين ]..

الإخلاص..
انبِعاثُ القلبِ إلى جهة المطلوبِ التماسًا..
وإغماض عَين الفؤاد عنِ الالتِفاتِ إلا له..
سرٌ بين الخالقِ وعبده..
لا يعلمُه ملكٌ فيكتُبه.. ولا شيطانٌ فيفسده.. ولا هوى فيميله..

الإخلاص..
إفرادُه وحده بِالقصد في كل تصرّف.. وتخليصُ النيّة مِن فسادها..
كان سفيان الثوري يقول:
[ "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي لأنها تتقلب علي"]..

الإخلاص..
ألّا تَرى عينك غيره.. ولا تطلبَ شهيدًا إلا هو.. وكفى بالله شهيدًا..

{ إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد فأُتي به، فعَرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار..

ورجل تعلم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال فما عملت؟ قال تعلمت العلم وعلّمته، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبت ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار..

ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من صنوف المال فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها، قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار
}

يا رب أعذنا..





إنّ الأعمال لا تتفاضل بصُوَرِها وعددها، وإنّما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العَمَلَين واحدة وبينهما كما بين السماء والأرض..
فها هي الطّاعات بلا إخلاص ولا صدقٍ مع الله لا قيمة لها ولا ثواب فيها..
بل وأصحابها كُبّوا في جهنّم وأعمالهم عظام..

فيا رحيم ارزقنا الإخلاص..

:

ونعود لنقطة البدء..

الله يحبّنا..
فقد أودع بنا الإخلاص سِلاحًا غُيّب في زمنٍ نحن أحوج فيه إلى القوّة..
سلاحٌ للمؤمنين يَقيهم الهمّ والحزن واليأس والضياع والضعف والخيبة..
مفتاح لسعادة روحيّة وراحةٍ نفسية..

[ لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ]

لقد علم الله ما في قلوبهم من الإخلاص.. وصدق النية والوفاء.. فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً.. طمأنينة تغشّاهم.. وثباتًا على ما هم عليه من دينهم...

وقد ضرب الله مثلاً لحال المُوحّدين المخلصين، وبيّن سبحانه كيف يُثمر الإخلاص في نفوسهم اطمئناناً وسكينة وراحة،

تخيّل أن هناك عبدين..
الأوّل.. له سيّد واحدٌ عرف ما يرضيه وما يسخِطه.. فجَعل همّه كلّه إرضاء سيّده واتّباع ما يحبّ..
والثّاني.. يملكه شُركاء غير متّفقين.. كلّ واحدٍ يأمرُ بِخلافِ ما يطلبُ الآخر.. فتأكله الحَيرة؛ أيُرضِي ذا أم ذاك؟!..

فهل يستَويان؟!..
ألهما نفسُ الرّاحةِ والطَمأنينة في أبدانهم؟!..
أتُظِلّ قلبيهِما نفس السكينة!!..
كلّا وربّي.. فأوّلٌ سعِيدٌ، وثانٍ مشَتّت شاقٍ.. لا يستَويان..!!

[ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لهَِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ]

ولله المثلُ الأعلَى.. فَكلما قلّ الإخلاص في القلب قلّت السكينة وضاعتِ الطمأنِينة فتضيعُ القلُوب وسطَ الظلام مهرْولةً وراء الدنيا ترضى عن ربها إن وهبت وتسخط بالعدم..

قال ابن القيم:

"الإخلاص والتوحيد شجرة في القلب؛ فروعها الأعمال، وثمرها طِـيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك.
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب؛ ثمرها في الدنيا الخوف والهمّ والغمّ وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم..
"


الإخلاص.. فرجٌ ونجاةٌ من الفواحش..

[ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ]..

ثمرةٌ مِن الثّمرات.. نزول الفرجِ مِن عِنده.. والنّجاةُ مِن الكرب والشّدة..!
أنجاه الله من كيد امرأة العزيز.. لأنّه كان مخلِصًا..!


الإخلاصُ قوةُ هِمّةٍ..

[ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ]..
ألك أن تنظُر إلى سيدنا موسى عليه السّلام كيف رفعَ الله قدره وأعلى مرتبته فجعله كليمه..
لأنّه كان مُخلصًا..

فذا الذي يطلبُ رِضا الله لنْ تقِف به همّتُه لهدفٍ دنيويّ من مالٍ وشهرةٍ ومكانة..!
ولن ينكسِر مجدافُه أمام العقَبات.. لأنّه ينظُرُ لِما هُو أبعد مِن الدنيا.. فهو يرى الله.. فَيُنسيه ذاكَ رُؤيَة غَير النّور..
كيف لا وهو يطمعُ بثَواب هناك.. ثوابٍ لا ينقطِع..


أتريد أن تحبّ الله..؟!..

رَبّ ذاتَك على الإخلاص.. قم بجَوف ليلٍ ركعاتٍ لا يعلمُها إلّا هُو.. أخفِ عن شِمالك ما أنفقته يِمينك...
كنْ في حركَتِك وسكُونِك، في سِرّك وعَلانيّتك لله، لا تُحدّثك نفسٌ ولا هَوى ولا دنيا..
وبإذن الله تحقق المقصد الأسمَى والمُراد الأعلَى..



واعلم أنّ الله يحبّك فلا تكن أعمى.. وأَوْجِد حبّه بالإخلاص له..!


رَزقَنِي الله وإيّاكُم الإخلاص!


.:.:.:.:.:.:.:.:.

بقلم وريشة هداية

السبت، 1 مايو 2010

هذه مشكلة الوهابية أنها تدعي أنها الممثل الشرعي للقرآن والسنة ...إبراهيم عيسي

بقلم : إبراهيم عيسي

لا أعرف لماذا يعتبر الأمير سلمان بن عبدالعزيز - أمير منطقة الرياض - أن إطلاق مصطلح «الوهابية» علي دعوة محمد بن عبدالوهاب تشويه وإساءة لأفكار محمد بن عبدالوهاب، بينما لا يجد الأمير سلمان في إطلاق مصطلح «السعودية» علي حركة محمد بن سعود أي مشكلة؟!

يبدو أن الأمير سلمان قد انفعل في مواجهة كتابات تنتقد وتهاجم الوهابية ودعوتها وأفكارها فكتب مقالاً في جريدة «الحياة» السعودية أمس الأول يقول لنا فيه إن الوهابية عودة إلي الأصول الصحيحة للعقيدة الإسلامية الصافية، آه.. هنا مكمن الخطر الوهابي، فكأن الأمير بتعريفه الوهابية يطعن في مخالفيها ومعارضيها ويرميهم خارجًا، فالوهابية إذن هي الأصول الصحيحة مما يعني أن عداها غير ذلك (أو عكس ذلك)، ثم ينبهنا الأمير - في قسوة واضحة - إلي أنه كيف يطالب البعض بإصلاح مضامين الدعوة (الوهابية) بينما - علي حد قوله - هي تلك المضامين التي نادي بها القرآن الكريم والسنة النبوية!!

وهكذا يا سمو الأمير قررت لنا أن الوهابية هي مضامين القرآن والسنة، ومن ثم مَنْ يخالفها ويعارضها إنما يخالف ويعارض السنة، ما كل هذه السماحة والاستنارة؟

هذه هي بالضبط مشكلة الوهابية يا أميرنا، إنها تدعي وتزعم أنها الممثل الشرعي للقرآن والسنة وأن فهمها - وهي حرة فيه - للإسلام هو الفهم الصحيح الصافي وكأنه احتكار لفهم الدين ونفي لفهم الآخرين، ولا تواضع علي الإطلاق في إطلاق هذه الأحكام النهائية؛ فالوهابي لا يسمح لنفسه بأن يقول هذا فهمي للدين وهذه طريقتي في استيعاب معانيه ومراميه، بل الوهابي والأمير سلمان نموذج مدهش في وضوحه المتحمس هنا يقول إن الوهابية هي الإسلام الصحيح الصافي!

طبعًا لن أتحدث معه ولا مع غيره في كيفية نجاح هذا الإسلام الصافي في التمكن من السيطرة العقلية علي أهل الحجاز، ولن أعود عشرات السنين لتفاصيل المجازر والمذابح الجماعية التي جرت عند التأسيس الأول للوهابية ضد مسلمين في الجزيرة لفرض هذا الإسلام الصافي!! لكنني فقط سأتوقف عند ملامح الوهابية التي هي عند الأمير الإسلام الصافي فأذكره بأنها التي رفض شيوخها ومفتوها الاعتراف بأن الأرض كروية تدور حول نفسها، وهي التي منعت حتي وقت قريب تعليم البنات والنساء، وهي التي تحرمهن من قيادة السيارات مثلا، وهي تفرض النقاب والبرقع، وهي التي تري الغرب كافرًا وتمنع بناء دور عبادة لأصحاب الأديان الأخري، وهي التي تُكفر الشيعة، وهي التي تُحرِّم الانتخابات، وهي سلسلة كاملة من الفهم الضيق الشكلي القشري للدين، وهي نموذج في الأحادية وغياب التسامح مع المذاهب الإسلامية الأخري والتعصب ضد الأديان الأخري!

ومع ذلك فهي حرة ومن يعتنقها أحرار في فهمهم وتصوراتهم، لكن مشكلتنا معها أنها تحاول فرض نفسها علي المسلمين، وعندما توفرت لها الثروة النفطية امتدت لتغزو العالم العربي ومصر تحديدًا عبر تمويل مئات الجمعيات الدينية وعشرات من دور النشر والصحف والمحطات الفضائية ومواقع الإنترنت، بل الأزهر الشريف ومناهجه والجامعات والكليات المتخصصة والشيوخ والأئمة، وطبعت ملايين النسخ من كتب الأئمة والسلف التي تتبناها ووزعت مئات الآلاف من الكتب التي تروج لأفكارها وتتهم فيها الآخرين من المتصوفة والشيعة والمجددين المجتهدين بالمروق من الدين، لذلك أستطيع أن أؤكد أن السعودية دولة صديقة لمصر، لكن الوهابية خصم مذهبي وفقهي للمصريين، فهي ضد الفهم المصري السمح (أو الذي كان سمحًا قبل الغزو الوهابي) للإسلام وفروضه وشعائره وفقهه، وقد تجاوزت الوهابية الممولة سعوديًا حدود العالم العربي إلي الكون الإسلامي والغربي، وجعلت نفسها حكمًا في الدين وحكمًا علي دين الآخرين!

يتحدي الأمير سلمان فيقول (من يستطيع أن يجد في كتابات الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورسائله أي خروج علي الكتاب والسنة وأعمال السلف الصالح فعليه أن يبرزه ويواجهنا به)، لكن الحقيقة أنني مثلا لا أريد أن أواجه الأمير؛ لأنني لا أقول إن الوهابية خرجت علي الكتاب والسنة، بل أقول إنها فهمت الكتاب والسنة علي نحو يخصها وبطريقتها، وهي حرة ونحن أحرار في أن نفهم بطريقة أخري أو مغايرة، ثم إن أعمال السلف الصالح هي أعمال لرجال سبقونا، ولنا أن نتخذها قدوة ولنا أن نختلف معها أو نفهمها بطريقتنا ونتعامل معها وفق فهمنا لضرورات العصر وطبقًا لصلاحية الدين الإسلامي لكل زمان ومكان، لكن الجمود عندها والتصلب الحاد في التمسك بها دون اجتهاد ولا إعمال للعقل هو أمر وهابي جدًا!

لا الوهابية خرجت علي الدين ولا الذين يخالفونها، بل يرفضونها، خرجوا علي الدين فإذا اقتنع الوهابيون بذلك ارتاحوا وأراحوا، لكنهم لو اقتنعوا فلن يكونوا ساعتها وهابيين إطلاقًا!

 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق