الجمعة، 7 مايو 2010

أزمة الإستراتيجية في منهج التغيير(३)

لكننا نلحظ تغيرا في هذه الاستراتيجية بعد العام العاشر من البعثة .. وهو العام الذي فقد فيه النبي صلى الله عليه وسلم تأييد العشيرة بوفاة أبي طالب وازدادت فيه شراسة قمع السلطة السياسية في قريش وجرأتهم على النبي صلى الله عليه وسلم لدرجة أيس منها صلى الله عليه وسلم من كسب تأييد النخبة السياسية بقريش. حينها غير النبي صلى الله عليه وسلم البندين الأوليين من الاستراتيجيه ليصبحا:
1- إيجاد سلطة ترحب بالفكرة وتعينه على تبليغ الدعوة
2- دخول صراع مع قريش لتحييدها (خلوا بيني وبين الناس) مما يمكنه صلى الله عليه وسلم من التحرك في الجزيرة العربية
ثم الانطلاق بالدعوة بعد استقرار الأوضاع إلى المحيط العالمي.

فنرى النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى ثاني القريتين الطائف محاولا إيجاد النصرة فيها لما تتمتع به من قوة ومكانة تؤهلها للتصدي لقريش .. وبعد فشل المحاولة دأب صلى الله عليه وسلم في عرض فكرته على القبائل حتى وفقه الله صلى الله عليه وسلم لهذه الثلة المؤمنة من يثرب .. وبعد الهجرة دخل النبي صلى الله عليه وسلم من العام الثاني للهجرة في صراع لتحييد قريش حتى تخلي بينه وبين الناس لينجح في ذلك في العام السادس من الهجرة عن طريق صلح الحديبية .. وبعد استقرار الأوضاع وفي طريق عودته من الحديبية بدأ صلى الله عليه وسلم في الانطلاق بالدعوة عالميا بمكاتبة الملوك والأمراء .. وانتهى الأمر ببداية المناوشات مع القوى العظمى العالمية في مؤتة وتبوك .. ليكمل الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم توصيل دعوة الإسلام للعالمين.

ولا تكتمل الفائدة من عرض هذه الاستراتيجية حتى نجيب على سؤال هام وهو .. ما هو الثابت الذي يجب ان تلتزم به حركتنا وما هو المتغير الذي يجوز لها أن تبدله في هذه الاستراتيجية ؟ .. والإجابة التي قد تكون عكس المتوقع أن هذه الاستراتيجية في مجملها تعتبر أمرا متغيرا من وجهة نظري .. وهذا ببساطة لأن الظروف التي وضعت فيها هذه الاستراتيجية وطبقت ونجحت تختلف تماما عن الظروف التي نعمل خلالها الآن وذلك في نواح ثلاث:
1- اختلاف البيئة القبلية بظروفها الإجتماعية والسياسية عن الظروف الاجتماعية والسياسية في الدول الإسلامية .. فلا يجوز مثلا ان نقول أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التغيير هو عبر آلية سياسية متمثلة في طلب النصرة من اهل المنعة في المجتمع (وهي حاليا مؤسسة الرئاسة او القوات المسلحة) وهي استرتيجية يجب أن نتبعها (كما يفعل حزب التحرير مثلا)
2- اختلاف الوضع العالمي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والذي لم تكن فيه القوى العظمى على دراية بهذا الدين ولا بالصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش حتى راسلها النبي صلى الله عليه وسلم في العام السابع من الهجرة ( أي بعد عشرين عاما من البعثة) وهذا يتضح في رد فعل قيصر مثلا ( الذي طلب أن يلتقي بأحد من العرب ليستفهمه عن هذا النبي وجرى بينه وبين أبي سفيان الحوار الشهير) أو في رد فعل كسرى (الذي أرسل لأميره على اليمن يأمره بإرسال جنديين لاعتقال النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الوضع مكن النبي صلى الله عليه وسلم من ترتيب الوضع الداخلي وتحقيق الاستقرار الإقليمي قبل أن يدخل في صراع مع القوى العظمى .. هذا الوضع يختلف تماما عن الوضع الحالي الذي تملك فيه القوى العظمى في المجتمع الدولي آلاف الأبحاث والدراسات عن حركة الإحياء الإسلامي وأفكارها ورموزها وأهدافها كما انها تدخل بالفعل في صراع مباشر او غير مباشر معها (عبر الانظمة التسلطية العلمانية) مما يفرض على الحركة الإسلامية صراعا مع هذه القوى قبل ان تحقق استقرارا في بيئتها المحلية.
3- الأمر الثالث البدهي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرك بالإسلام في بيئة كافرة بينما تتحرك دعوتنا بأفكار إحياء إسلامي في بيئة مسلمة درست معالمها الإسلامية .. وكلا الحالتين مختلفتان في أحكامهما الفقهية ولغة الخطاب التي يجب أن تستخدم وأساليب الدعوة الملائمة.
ومع هذا تظل بعض القواعد والأسس التي تبقى ثوابتا لأي استراتيجية إسلامية صحيحة مثل الاهتمام بتربية أبناء الحركة تربية إيمانية وروحية عميقة ومثل رفض استخدام العنف والإكراه ونحو ذلك كآليات للتغيير داخل مجتمعاتنا.

والخلاصة أننا نخطئ حين نصر على التمسك بآلية التغيير التحتي ونرفض أي محاولة نقد أو تقييم لها ونغلق الباب أمام أي اجتهادات أخرى أكثر ملائمة لأوضاعنا الراهنة ونزعم أن أي سعي للسلطة الآن هو استباق لمرحلة المجتمع المسلم تحت دعوى أن التغيير التحتي هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التغيير لأن هذا التصور لا يتماشى مع حقائق السيرة من جهة .. وأن استراتيجية التغيير التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لا تتلاءم بمجملها وتعقيدات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها في عالمنا الآن من جهة أخرى.
--4—
ونعود ثانية لمناقشة استراتيجية الجماعة المتمثلة في المراحل التي صاغها الإمام البنا بدءا بالفرد المسلم فالأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالحكومة المسلمة وانتهاء بدولة الخلافة وأستاذية العالم فنتساءل أين الخلل؟!! ولماذا تتعثر الجماعة في خطوتها الثالثة أكثر من ثمانين عاما؟! ولماذا لا تؤتي مساعيها الدؤوبة من أجل تحقيق المجتمع الإسلامي النتائج المرجوة؟! ومتى وكيف يمكن الانتقال لمرحلة الحكومة المسلمة؟!

أزعم أن المشكلة الرئيسية بخصوص هذه الاستراتيجية هي أنها قد صيغت في ظروف قد تغيرت ووفق قراءة لواقع قد تبدل .. بمعنى أن هذه الاستراتيجية التي صاغها الإمام البنا رحمه الله هي بنت الحقبة الليبرالية في التاريخ المصري والتي امتدت ثلاثين عاما (من 1922 إلى 1952) .. هذه الحقبة التي كان يمكن خلالها تكوين جمعية اهلية دعوية فتتحرك في المجتمع وتنتشر بشعبها ومساجدها وبمدارسها وشركاتها وبأنشطتها وإصداراتها في طول البلاد وعرضها خلال سنوات معدودة .. هذه الحقبة التي كانت تتمتع بانتخابات نزيهة وتداول سلمي للسلطة بحيث يمكن أن نتخيل انه حين ينضج الخطاب الإسلامي السياسي ويملك رؤية واضحة للتعامل مع الواقع وحين ينجح في توصيل فكرته للمجتمع أن ينال ثقة الناخب ليحمله إلى البرلمان بل وإلى تشكيل الحكومة.


وبالرغم من أن هذه الاستراتيجية وفق معطيات هذه الحقبة تبدو منطقية إلا انها تعرضت لانتكاسة خطيرة في عام 1948 وذلك يرجع إلى أمرين : أولهما ان الجماعة خرجت بعد الحرب العالمية الثانية وهي أصلب القوى السياسية عودا وأكثرها شعبية وأوسعها تأييدا مما أغراها – وأغرى بها – لتدخل في صدام مع كافة القوى السياسية الرئيسية في المجتمع آنذاك .. إذ خاضت الجماعة صراعا مع الوفد (حزب الأغلبية) من جهة ومع الملك واحزاب الأقلية من جهة ثانية ومع الشيوعيين من جهة ثالثة .. ثانيا: هو دور الجماعة في حرب 1948 والذي تسبب في تغير استراتيجية القوى الدولية في التعامل مع الجماعة بعد ان أدركت مدى قوتها وخطورتها على مصالحها في المنطقة .. فبدلا من المراقبة عن كثب ومحاولة الاحتواء قررت هذه القوى الإجهازعلى الجماعة واستئصالها ... وهكذا دخلت الجماعة صراعا عنيفا مع القوى الخارجية دون ظهير من القوى الداخلية .. فكانت موازين القوة بالتأكيد في غير صالح الجماعة.

وبعد ثورة يوليو 1952 ثم الصدام المروع مع الجماعة (والذي ربما أعود للحديث عنه لاحقا) في عام 1954 دخلت مصر نفق الحكم العسكري وتمت تصفية منظمات المجتمع المدني وتم حظر الأحزاب وفرضت الرقابة على الإعلام وأممت الحياة السياسية فلا انتخابات حقيقية ولاتداول للسلطة .. وبالرغم من خروج أعضاء الجماعة من السجون حوالي عام 1974 وبالرغم من بعض اجراءات التحول الديمقراطي عام 1977 والذي أعاد الحياة الحزبية (ولو شكليا) وبالرغم من إجراء الانتخابات النيابية في مصر بشكل منتظم ودوري أوالطفرة في نشاط منظمات المجتمع المدني منذ منتصف التسعينيات أوزيادة سقف حرية التعبير عن الرأي إلا أن سمات الحكم الديكتاتوري لا تزال تغلب على نظام الحكم في مصر فلا انتخابات نزيهة ولا تمثيل نيابي حقيقي ولا تداول سلمي للسلطة ومازال الأمن ممسكا بكافة الملفات السياسية للبلد ومازال مسلسل التنكيل بالمعارضين مستمرا.

ويكون هنا السؤال .. في ظل هذه الظروف كيف يمكن للجماعة أن تتبنى استراتيجية الفرد المسلم فالأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالحكومة المسلمة؟! إذ كيف يمكن للجماعة أن تنجح في تغيير المجتمع وأفرادها مهددون وتنظيماتها دون غطاء قانوني ورموزها معتقلون وصحفها مصادرة ومساجدها مؤممة ومدارسها محاربة؟ وإذا فرضنا أن الجماعة نجحت في تغيير المجتمع وإقناعه بمشروعها عن الإسلام الوسطي الشامل .. أين هي الانتخابات التي ستعكس رأي هذا المجتمع لتأتي بالحكومة الإسلامية ؟!

ولهذا فإننا نخطئ حين نجعل الآن من تكوين المجتمع المسلم هدفنا المرحلي الاهم الذي لابد أن توجه له كل الجهود وتفرغ له كل الطاقات ويقدم له كل الدعم والإمكانيات في حين نكتفي بالتمثيل المشرف والمشاركة الرمزية في مجال مقاومة النظام المستبد والسعي من أجل التحول الديمقراطي ॥ لأننا ببساطة إذا أردنا ان نطبق استراتيجية الإمام البنا رحمه الله فلابد ان نستعيد أولا الحالة الليبرالية التي كانت عليها مصر حين صاغها .. هذا بالطبع مع الاستفادة من تجارب الماضي ودراسة متغيرات ومستجدات الحاضر سواء بسواء।

منقول من موضوع الاخ عمار البلتاجي علي الملتقي الاخواني
 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق